يستمر الصراع من أجل السيادة بين العلوم الاجتماعية منذ سنوات عديدة. أجرى الفرع الفرنسي من جمعية أبحاث ماكس بلانك دراسة بعنوان "سيادة الاقتصاد" و يتهمون فيها علماء الاقتصاد بكونهم متغطرسين و منطويين. والاتهام الأهم هو أنهم يكسبون مالا أكثر. فما الذي فعله الاقتصاديون بحيث أساؤوا للعلماء؟
غالبا ما ينتقد الاقتصاديون من قبل علماء الاجتماع. أحد الأسباب هو الاختلاف في تيارات السياسة في هذه التخصصات: يميل علم الاجتماع بقوة إلى جهة اليسار بينما يقع الاقتصاد في الوسط بين الجهة الليبرالية و الجهة المحافظة ولذلك يتخذ موقفا سياسيا يساريا أقصى في العالم الأكاديمي.يرجع جزء من عدم الرضا إلى أن عددا من الاقتصاديين مثل غاري بيكر يعملون على صنع نماذج لآليات التمييز في الحياة الأسرية و بينما تكون هذه القضايا عادة في أيدي علماء الاجتماع. في العلوم الاجتماعية و هي أكثر الأنظمة تنظيما، يكون العلماء حساسين تجاه "إمبريالية" كهذه.
يعتقد العديد من علماء الاجتماع أن للاقتصاد مركزا مهيمنا بين العلوم الاجتماعية. هذا هو الاستنتاج الرئيسي من الدراسة الجديدة التي أجريت من قبل الفرع الفرنسي من جمعية أبحاث ماكس بلانك.كرست هذه الدراسة لمشكلة عدم استقرار المجتمعات في السوق. في عمل بعنوان "سيادة الاقتصاديين" يتم تأكيد أن الاقتصاد يهيمن على العلوم الاجتماعية و الاقتصاديين أنفسهم هم متكبرون و منطويون.
"لقد قمنا في هذه الدراسة بالنظر في الموقف السائد للاقتصاد في العلوم الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية . علينا أولا إثبات استقلال الاقتصاد النسبي باستخدام البيانات القياسية. ثم بالانتقال من العام إلى الخاص، نقوم بتحليل نهج الإدارة الدقيق الذي يحدد بوضوح تسلسل الاقتصاد الهرمي كعلم. يختلف الاقتصاديون أيضا عن العلوم الاجتماعية بوضعهم المالي الأفضل (يقوم العديد منهم بالتدريس في المدارس التجارية وتقديم خدمات استشارية)، و يختلف الاقتصاد بنظرة أكثر فردية وبالثقة في قدرته على حل المشاكل العالمية. يوفر مجموع هذه الخصائص ما يعرف ب " سيادة الاقتصاديين " التي توضح أن تفوق الاقتصاديين له صلة وثيقة بإدراكهم لنفوذهم و سلطتهم. ولا شك في أن هذا التفوق يساهم في اشراك خبراء الاقتصاد في حل المسائل العملية و يشرح تأثيرهم الكبير على الاقتصاد لكنه يزيد أيضا من مخاطر تضارب المصالح و النقد السياسي و حتى السخرية".
تظهربعض هذه النتائج بأنها بعيدة المدى.تنظر الكثير من التخصصات الأكاديمية بازدراء إلى الآخرين و هذه إحدى ملامح الحياة الأكاديمية الطريفة. فلا يعتقد علماء النفس وأساتذة المالية أن الاقتصاديون هم أكثر أهمية منهم. ويبدو أن الشعور بعقدة النقص هوأساسي لعلماء الاجتماع.
أما عن "تأثير الاقتصاديين على الاقتصاد" فهو ليس بسبب غطرسة الاقتصاديين ولا التسلسل الهرمي ولا شعورهم الذاتي بالنفوذ و السلطة.
أحد التفسيرات المحتملة هو أن خبراء الاقتصاد يدرسون الاقتصاد.
إذا أراد السياسيون أن يفهموا كيف يمكن الحد من نسبة الإصابة بالسرطان فسوف يسألون الأطباء وعلماء الأحياء. إذا تساءلوا عن الطريقة الأفضل لإلقاء الصواريخ على العدو، سوف يسألون علماء الفيزياء. و إذا كنت تريد معرفة كيفية زيادة إنتاجية الشركات، زيادة فرص العمل أو خصخصة الترددات الاتصالية، فمن عليك أن تسأل ؟ هل تسأل العلماء؟
شيء واحد مؤكد: يتقدم خبراء الاقتصاد على علماء الاجتماع من ناحية الدخل. ويتضح هذا بشكل جيد في الجدول المرفق للدراسة.
لا يقوم مؤلفو الدراسة بشرح السبب لذلك ،لكنهم لمحوا إلى أن أبسط قواعد الاقتصاد تلعب دورا في هذا. الطلب على خبراء الاقتصاد يفوق العرض فهناك الكثيرون للاختيار من بينهم و الخيار الرئيسي يكون بين قطاعات الاستشارات والمالية
لماذا يستطيع الاقتصاديون أن يعملوا في هذه المجالات ؟ ببساطة لأن لديهم المعارف والمهارات الضرورية لذلك
إنها ليست رياضيات. لا يتطلب من الاقتصاديين تحليل حقيقي (هم يحصلون على هذه المهارة عبر توسيع آفاقهم ولكن لا يستخدمونها أبدا). إذا كانت الشركة المالية بحاجة إلى الرياضيات فستقوم بتعيين عالم رياضيات أو عالم فيزياء. يسمي كبار الاقتصاديين نماذج التوازن العامة "بالرياضيات" ولكن هذه النماذج لا تستخدم في أي مكان عدا منشورات الاقتصاد الكلي.
إن تطبيقات المهارات المذكورة هي الإحصاء.
يعرف الاقتصاديون عن الإحصاء أكثر من أي شخص آخر، ما عدا الإحصائيين ذاتهم و الخبراء في مجال الرياضيات التطبيقية. يتعامل قسم كامل من الاقتصاد مع الإحصائيات و يسمى بالاقتصاد القياسي. معظم الدراسات التجريبية التي يجريها الاقتصاديون هي من الإحصاء التطبيقي.
يقدر الإحصاء كثيرا في العالم الحقيقي. من المهم للاستشاريين أن يكونوا قادرين على فعل أشياء بسيطة مثل صناعة وتفسير الانحدار. ترسخ الإحصاء في صناعة التكنولوجيا المعلوماتية كجزء أساسي من تجهيز البيانات وتحليلها. يجب على الاقتصاديين أن يكونوا قادرين على إدارة البيانات. هم عادة يتعلمون البرمجة في Matlab.
وكما هو معروف من أسس الاقتصاد ترفع مثل هذه المهارات قيمة المختص في السوق. تجبر الجامعات بدفع مبالغا كثيرة للأساتذة كي لا ينتقلوا إلى العمل في الشركات الاستشارية و المالية.
لاستبعاد "سيادة" الاقتصاديين ، علماء الاجتماع بحاجة إلى تعلم التقنيات المتقدمة للإحصاء.
هم بالطبع يستخدمون الأساليب الإحصائية ولكنها عادة ما تكون أقل حداثة و دقة من أساليب الاقتصاديين. هذه المشكلة محلولة بما أن علماء الاجتماع يعملون مع عدد كبير من المشاكل التي تتطلب بيانات كمية التي تكون متوفرة دائما.ويمكن طلب المساعدة من مراكز الأبحاث.
إن استخدام إحصاءات أكثر اكتمالا و أكثر دقة قد يتطلب من علماء الاجتماع أن يطبقوا الأساليب الكمية في محاكاة الظواهر الاجتماعية على نطاق أوسع. ولكن ليس بالضرورة أن يطبقوا أي مفاهيم أونماذج للبناء المستخدمة من قبل الاقتصاديين.و لن يضطروا للتخلي عن شبر واحد من "الامبريالية" لأتباع غاري بيكر. كل ما هو مطلوب من علماء الاجتماع هو أن يتعلموا أساليب إحصائية أكثر تطورا و مهارات إدارة البيانات و البرمجة. من الأفضل أن يبدؤوا استخدام بيانات إحصائية أكثر تعقيدا بكثير من التي تستخدم الآن في المنشورات الاجتماعية. و سينظر مع مرور الوقت إلى علماء الاجتماع كعلماء ذو خبرة جيدة في أساليب جمع البيانات وتحليلها.
يوما ما سوف يستطيع علماء الاجتماع أن يحصلوا على رواتب أعلى وطلابهم على وظائف جيدة في الاستشارات المالية و في جمع البيانات وتحليلها. حان الوقت لوقف الاستياء و البدء في التعلم.