أنعيش في ماضي كونٍ موازٍ؟
الصفحة الرئيسية تحليلات

تقول إحدى النظريات العلمية المعاصرة: حاضرنا هو ماضي غيرنا.

لا تعمل أي نظرية كونية، سواء كانت ترتكز على نظرية الجاذبية لنيوتن أو النظرية الكهرمغناطيسية لماكسويل أم نظرية النسبية العامة والخاصة لآينشتاين أم ميكانيكا الكم، إلا بتحقق شرط واحد: إذا كان الزمان خطياً. يمكن أن يجري الزمان إلى الأمام أو إلى الوراء، لكن يجب أن يكون خطياً.

إن صورة الكون المرئية تختلف بالتأكيد عن نظريات الفيزياء الفلكية؛ فالكون يتمدد لا يتقبض؛ والنجوم تطلق الضوء لا تمتصه؛ وذرات العناصر المشعة تتفكك لا تندمج؛ والعجة لا تتحول إلى بيض ورماد السجائر لا يتحول إلى تبغ؛ يمكن تذكر الماضي لا المستقبل؛ كل يوم يقربنا من الشيخوخة لا من الشباب. الزمن بالنسبة لنا خطي ووحيد الاتجاه، فهو يسير نحو المستقبل.

سهم الزمان

قدم الفيزيائي الفلكي آرثر إدينغتون في عشرينات القرن العشرين مفهوم «سهم الزمان» الذي عرّف فيه الزمان بأنه خط مستقيم (غرض وحيد البعد) يمتد من الماضي إلى المستقبل. بقي الاعتقاد السائد على مدى قرن تقريباً أن هذا يقع ضمن مجال اهتمام الترموديناميك، وفعل إدينغتون الكثير ليثبت الرأي الذي طرحه الفيزيائي النمساوي لودفيغ بولتزمان في نهاية القرن التاسع عشر. سهم الزمان، أو محور الزمان، وحيد الاتجاه من حيث المبدأ، وجميع الظواهر التي نشاهدها، مهما اختلفت مستوياتها، يجب أن توازن بعضها.

وبتبسيط القول، «كل شيء يسعى إلى الخراب». يوصف هذا في العلوم كنتيجة لقانون الترموديناميك الثاني الذي صاغه لودفيغ بولتزمان بالإضافة إلى قوانين أخرى.

وفق قانون الترموديناميك الثاني تتزايد الإنتروبيا في أي نظام مغلق ويتراجع النظام أمام الفوضى. الكون الذي نعيش فيه ليس استثناءً. في أي نظام يفوق عدد الحالات غير المستقرة بأضعاف عدد الحالات المستقرة. جرب أن تزيح بيدك الأوراق عن مكتبك تجد أن هذا أسهل بكثير من تجميعها وترتيبها بعد ذلك.

يشير سهم الزمان في الغرار الترموديناميكي إلى أن الكون القابل للمشاهدة قد ظهر في لحظة فريدة كان النظام فيها يغلب على الإنتروبيا.

في بداية الزمان ظهرت «بيضة» مادياً وبدأت تتحول إلى «عجة»، ولا تزال هذه العملية تجري حتى الآن. ولا يستطيع العلماء منذ نهاية القرن التاسع عشر، حقبة ازدهار الفلسفة الوضعية، التغلب على كرههم لفكرة خلق الكون، إلا أنهم يعجزون أيضاً عن حل لغز الزمان.

كان لودفيغ بولتزمان يعتبر أن الكون أزلي (وهذا ما يجب أن يكون في غرار نيوتن)، وهذا ما يفسر انخفاض مستوى الإنتروبيا في لحظة ظهور سهم الزمان. هات ما يكفي من الوقت (عموماً، يجب أن يكون الوقت لامتناهياً في هذه النظرية) يحدث كل ما يمكن أن يحدث. وبين الأشياء الأخرى، سيظهر في الوضع الكوني القريب من التوازن مكان واسع ذو إنتروبيا منخفضة جداً كتابع إحصائي لانعدام الزمان. لم يكن بولتزمان يستبعد أن البشرية يمكن أن تجد نفسها في مكان مفترض يشير سهم الزمان فيه إلى استعادة التوازن الإنتروبية البطيئة.

نظريات الزمان الجديدة

نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، وقد تعقدت المسألة: يعرف الفيزيائيون أن الكون المشاهد يتغير وله عمر. يجب عليهم وصف سهم الزمان في الكون الديناميكي النسبي الذي ظهر منذ حوالي 14 مليار سنة نتيجة الانفجار العظيم (على الأقل، هناك إجماع علمي حول هذا الأمر). كثيراً ما يقتصر «الشرح» على «توليف» متثابتات النظرية القاعدية: إذا كانت الحقائق لا تتوافق مع النظرية فتباً للحقائق.

تمدد الكون في اللحظات الأولى بعد الانفجار العظيم

إن الكثير من التأويلات المعاصرة لسهم الزمان ذي الإنتروبيا المنخفضة يستخدم بالضرورة نظرية التضخم الكوني: التمدد المضاد للجاذبية للكون السالف حتى المقاييس الفلكية الذي تبعه انخفاض مستوى الإنتروبيا إلى مستوى منخفض للغاية، ما جعل تشكل البنى الكونية ممكناً.

يسمي الفيزيائيون التمدد الانفجاري للكون بالتضخم. يحتاج هذا المصطلح حتى الآن إلى تعريف أكثر دقة. يبدو بديهياً أن التضخم، متى بدأ، يجب أن يبقى لامتناهياً، وفي هذه الحالة يجب أن يظهر عدد لامتناهٍ من الأكوان الجديدة التي لا يمكن أن نتكهن بطبيعتها من مكاننا في كوننا. قد يكون هذا عيباً في النظرية أو أحد ملامحها العظيمة، ولا يستطيع العلماء أن يتوصلوا إلى رأي مشترك حتى الآن. في المرحلة الحالية لتطور الفكر الفيزيائي يمكن أن نجزم بأمر واحد فقط: نظرية التضخم الكوني مرنة للغاية وتفسر أموراً كثيرة، وهنا تكمن نقطة قوتها ونقطة ضعفها.

لهذا السبب لا يقبل عدد من العلماء الذين يسعون لاكتشاف الأساس منخفض الإنتروبيا لسهم الزمان نظرية التضخم الكوني قبولاً كاملاً. يقول ديفيد ألبرت أستاذ الفلسفة والفيزياء في جامعة كولومبيا:

«يحاول الكثيرون في الحاضر أن يجدوا تفسيراً عقلانياً لانخفاض مستوى الإنتروبيا إلى هذه الدرجة في بداية الزمان. ويصل بعض زملائنا إلى طرح الرأي بأن فكرة الإنتروبيا البدئية المنخفضة يجب أن تصبح قانوناً فيزيائياً جديداً».

لو وجد برهان مثل هذا القانون لأدى ذلك إلى تدمير الكوسمولوجيا العلمية تماماً. لحسن الحظ، لم يجد أحد حتى الآن البرهان المناسب.

تشير البيانات الأولية من البحث المشترك بين جوليان باربور (جامعة أكسفورد) وتيم كوزلوفسكي (جامعة نيو برونزويك) وفلافيو ميركاتي (معهد Perimeter الكندي للفيزياء النظرية): لا تحتاج فكرة سهم الزمان إلى «توليف» لأن مستوى الإنتروبيا البدئي في هذا المفهوم لا دور له. يقول جوليان باربور وزملاؤه أن الجاذبية أهم من الترموديناميك.

يستند البحث إلى نموذج كوني مبسط قصداً، محاكاة حاسوبية لتأثير الجاذبية على ألف جسيم وحيد البعد ضمن غرار نيوتن. تقاس ديناميكا النظام بمعير التعقيد الذي يتم تعريفه على أنه التناسب بين المسافة بين أقرب جسيمين إلى المسافة بين أبعد جسيمين. يكون تعقيد النظام في حده الأدنى عند التعنقد السحابي الكثيف للجسيمات (حجم النظام أصغري وتجانسه أعظمي، وهذه مضاهأة تقريبية لوضع الانفجار العظيم). بيّن فريق جوليان باربور أن أي ترتيب للجسيمات بصرف النظر عن عددها وحجمها يسعى إلى حالة التعقيد الأصغري؛ وبالتالي فإن الجاذبية هي أساس تمدد النظام ومنبع سهم الزمان. هذه النظرية لا تعتمد على السؤال عن مستوى الحالة البدئية للإنتروبيا المنخفضة للنظام، وفيما لو كانت منخفضة أساساً.

يتمدد نظام الجسيمات من حالة التعقيد المنخفض في كلا الاتجاهين الزمانيين، فيظهر سهمان زمانيان متناظران متعاكسان. توحِّد الجاذبية الجسيمات على كلا السهمين لتشكل تكوينات أكثر تعقيداً وتنظيماً، مثل تعنقدات المجرات والنجوم والأنظمة الكوكبية. ومن هذه اللحظة يمكن أن يبدأ مسار الزمان المقياسي في الغرار الترموديناميكي، في أي اتجاه من الاتجاهين.

بتعبير آخر، يفترض النموذج إمكانية ماضٍ واحد ومستقبلين اثنين. في هذه الحالة لا تستخدم قوانين الفيزياء مقولة الزمان، ولذا يمكن أن يشير رأس السهم إلى أي اتجاه. أما المشاهد فلا يمكن أن يرى إلا اتجاهاً واحداً للسهم، وذلك في لحظة زمانية واحدة فقط. يشرح فلافيو ميركاتي:

«تسحب الجاذبية في الواقع الكون من حالة الفوضى الموجودة مسبقاً فتشكل البنى والتراتيب ومستوى التعقيد. تنقسم جميع حلول الوضع إلى حقبتين تسيران بالضرورة في اتجاهين زمانيين متعاكسين، ولا يتصف بصفات مميزة إلا الوضع لحظة الافتراق».

هذا نموذج تقريبي لا يأخذ في الحسبان ميكانيكا الكم ولا مبادئ النظرية النسبية العامة، ولكن له كامن علمي عظيم. إذا افترضنا أنه صحيح بالنسبة لكوننا يتضح أن الانفجار العظيم ليس بداية الكون، إنما إحدى مراحل تطوره اللامتناهي في الزمان والمكان على ما يبدو. ويراه المشاهدون الواقعون على الجهتين المتعاكستين من الزمان والمكان بشكل مختلف. يقول جوليان باربور:

«في حالة الزمانين يكون الماضي وحيد البعد وفوضوياً في كلا الاتجاهين، وهذا يعني ضرورة وجود كونين متوازيين لكل منهما بدايته. لو كانا معقدين بما يكفي لاستطاع مشاهدان من الجانبين المتعاكسين أن يكونوا موجودين في نفس اللحظة ولو أنهما يسيران في اتجاهين مختلفين على محور الزمان. سيعرِّف أي كائن عاقل سهم الزمان في مثل هذه الحالة بأنه ينطلق من نقطة ابتداء، ومن ثم كان المشاهدون سيقولون أننا نعيش في ماضيهم السحيق».

علاوة على ذلك، إذا ثبت أن الجاذبية هي العامل المحدد لسهم الزمان، فسوف نستطيع، عاجلاً أم آجلاً، أن نعطي تنبؤات قابلة للتحقق، وهذا سيقلل من مستوى الشخصانية في شرح ووصف نموذج التضخم الكوني وبنية الكون المرئي.

الدراسات الماضية

هذا البحث ليس هو الأول لسهم الزمان ثنائي الاتجاه، إذ قدم الفيزيائيان شون كارول وجينيفير تشان (معهد كاليفورنيا التقني) في سنة 2004 نموذج الزمان متنافي الاتجاهات لوصف الجانب منخفض الإنتروبيا للتضخم ونشوء الأكوان. حسب رأيهما، العامل المحدد لسهم الزمان ليس المستوى الأصغري للإنتروبيا في الماضي، إنما مستواها المرتفع في كلا المستقبلين نظراً لظهور أكوان جديدة نتيجة التضخم.

شون كارول وجينيثفر شان

لا يزال شون كارول يقف عند رأيه بعد مضي عشر سنوات: تزايد الإنتروبيا هو العامل الرئيسي لسهمي الزمان، وجميع العوامل الأخرى، بما فيها الجاذبية، عوامل ثانوية. يقول كارول:

«كل ما يحدث في الكون يمكن تفسيره في النهاية بفرق مستوى الإنتروبيا في الاتجاهين المتعاكسين. إن بحث فريق جوليان باربور مفيد، إذ لم يتقاعس زملائي عن إجراء حسابات كثيرة لديناميكا الجسيمات في غرار الجاذبية. لكني لست من أنصار نموذجهم: أعتقد أنهم قاموا بتحليل هذا النموذج لا أكثر. في رأيي، عينة مغلقة من الجسيمات في كون لا حدود له لا يمكن أن تكون ممثلة، إذ يمكنك أن تجعلها تفعل ما تشاء. يكمن السؤال في إمكانية تعميم نتائج البحث على تفسير كامل الكون. إنها مسألة شاقة للغاية».

يتعاون شون كارول مع ألان غوتس من معهد ماساشوستس للتقنية. لقد اخترع نظرية التضخم من خلال البحث عن رد لأنصار المقاربة الترموديناميكية على الفيزيائيين الذين يدافعون عن الأهمية الأولية للجاذبية. الرد المبدئي كما يلي: يمكن بناء نموذج لكون يسعى إلى التعقيد الأصغري من جسيمات، وسيظهر فيه أيضاً سهم الزمان، ولكن بلا تأثير الجاذبية أو أي قوة أخرى. هذا يتطلب الافتراض أن كمون الإنتروبيا في الكون غير محدود.

يشرح ألان غوتس:

«إذا اعتبرنا أن كمون الإنتروبيا غير محدود، يمكن أن نقول أن في أي حالة من حالات النظام يمكن أن يكون مستوى الإنتروبيا منخفضاً. قد يبدو هذا غريباً، لكني متأكد أن هذه المقاربة فعالة. بيّن بحث جوليان باربور وزملائه شيئاً هاماً: إذا كان كمون الإنتروبيا غير محدود، يمكن أن تضع نقطة البداية في أي موضع، فتزداد الإنتروبيا دائماً مع تمدد النظام. التمدد المستمر هو السياق الطبيعي الذي يمكن أن تضع هذه الفكرة فيه لأن مستوى الإنتروبيا في الكون المتمدد باستمرار وعلى الدوام لا يمكن أن يكون محدوداً».

قطع الجدال حول سهم الزمان منذ أيام بولتزمان وإدينغتون أشواطاً طويلة، وطُرِحت آراء كثيرة، ولكن جوليان باربور يقول أن هذا الجدال أزلي ولا شرّ فيه:

«تفتح نقاشاتنا مقاربات جديدة تماماً لإدراك المسألة الأساسية عن طبيعة سهم الزمان وطبيعة قانون الترموديناميك الثاني. في الواقع، الفيزيائيون يبحثون جانباً جديداً لنظرية الجاذبية التي طرحها نيوتن والذي كنا نسهو عنه. إلام سنتوصل؟ نعيش ونرى.

كان آرثر إدينغتون هو من أدخل مصطلح "سهم الزمان" إلى الخطاب العلمي، وهو نفسه صاحب المقولة الشهيرة أن الطبيعة قادرة على كل شيء عدا تحويل المادة إلى طاقة. لقد أثبت فريقنا بكل وضوح أن الجاذبية تستطيع ذلك، إذ تستطيع تحويل النظم الفوضوية للغاية إلى النظم المرتبة للغاية. وهذا تحديداً حصل مع كوننا، فصارت الفوضى نظاماً».

الرجاء وصف الخطأ
إغلاق