البيولوجيا والتسويق
الصفحة الرئيسية تحليلات

قد يبدو أن جميع حيل مصممي الدعايات والإعلانات معروفة من زمان؛ ولكن لماذا نبقى نتأثر بها؟ يحدثنا عن رأيه في هذا الموضوع الدكتور في الأنثروبولوجيا التطورية كريستوفر كروبينييه من جامعة ديوك.

كنت مرة جالساً في غرفة انتظار في مركز بيع السيارات، بينما كان يجري تخديم سيارتي، فبدأت أتصفح كتالوج البضائع. كانت إحدى دعايات خدمة تبديل الزيت تقول أن خلال هذه الطريقة يزال 90٪ من الزيت المستهلك على الأقل، وكانت دعاية أخرى لفرامل جديدة تضمن فعاليتها الكاملة مدة 12 شهراً كاملاً. ولم يكن هناك دعايات لعملية تبديل الزيت التي تترك 10٪ من الراسب أو لفرامل لا تبدأ تتعطل إلا بعد مرور سنة.

وذلك لأن مصممي الإعلانات يعرفون أن تلقّي الناس للمعلومات يختلف حسب صياغتها؛ فنظرتنا إلى البضائع تكون أفضل في حال تقديم صفاتها الإيجابية على أنها تتفوق على صفاتها السلبية، حتى لو كان الوضع نفسه (كما عندما تقول عن تنظيف 90٪ بدل أن تذكر بقاء 10٪ من الوسخ).

تأثير التأطير

يسمى هذا بتأثير التأطير، وهو مثال على مقاربة واحدة فقط من المقاربات اللاعقلانية العديدة التي يستخدمها البشر عند اتخاذ القرارات الاقتصادية.

ومن المقاربات اللاعقلانية الأخرى:

  • رفض الخسارة (أي الميل إلى اتقاء الخسائر بدل الحصول على الربح).
  • تأثير التملك (يعطي الناس قيمة أعلى للأشياء إذا كانت ملكاً لهم).
  • تأثير الانعكاس (يغير الناس موقفهم من المخاطرة عندما يربحون لا عندما يخسرون).

هذه الخواص اللاعقلانية منتشرة جداً والتغلب عليها صعب للغاية، ولها تأثير كبير على سلوك الناس في السوق. مثلاً، الناس مستعدون أكثر لإنفاق مبلغ محدد إذا قُدِّم لهم على أنه هبة مما لو كان المبلغ نفسه تعويضاً عن خسائر سابقة، ويتظاهر هذا في نزوع السكان إلى الإنفاق وليس إلى الادخار.

يؤثر تأثير التأطير على قرارات البشر في مجال الطب مثلاً، فيعتادون على الإجراءات الوقائية في رعايتهم الصحية. أما وكالات التسويق فكثيراً ما تستخدم هذه الخصائص لزيادة المبيعات.

إن دراسة عمليات اتخاذ القرارات يمكن أن تساعد المؤسسات الاقتصادية، والتي تنطلق من التصور الخاطئ القائل بأن سلوك الإنسان عقلاني، على التنبؤ باللاعقلانية، مما يساعدها في إنشاء مخططات ذات خيارات متعددة لتوجيه الناس نحو اتخاذ قرارات أكثر فائدة بالنسبة لهم. لهذه الأسباب تحديداً حصل دانيال كانيمان في سنة 2002 على جائزة نوبل في الاقتصاد (بالمشاركة مع المرحوم آموس تفيرسكي) على مساهمته في فهم عمليات اتخاذ القرارات اللاعقلاني.

سعت الدراسات التي أجريت مؤخراً إلى استقصاء منابع مثل هذه النزعات. في أغلب المجتمعات يتفاعل الناس مع الأسواق النقدية منذ نعومة أظفارهم، ويبدو من البديهي أن هذا التفاعل يجب أن يكون المصدر الرئيسي لاستراتيجيات اتخاذ القرارات والتحيزات. وبالتأكيد، هناك تأثير من الثقافة والعادات المجتمعية السائدة.

رغم أن دور الثقافة الاجتماعية والتجربة السوقية هام، يتضح في الحاضر أن التحيزات في الاختيارات قد تكون أسبابها أعمق، وتكمن في البيولوجيا. بيّنت دراسات سابقة أن أنواعاً حيوانية أخرى، بما فيها الزرزور الأوروبي وسعدان الكبوشين، تظهر عندها هي الأخرى نزعات لاعقلانية مثل تأثير التأطير.

دراسة سلوكيات قردة البونوبو والشمبانزي

topten22photo/Shutterstock.com

ولكن بما أن هذين النوعين بعيدان عن الإنسان نوعاً ما، من الصعب أن تعرف إن كان تأثير التأطير مشتركاً بين أنواع حيوانية مختلفة نتيجة أصلها المشترك أم أنه قد تطور في كل منها بصورة مستقلة. ولدراسة هذه المسألة بحثت مع زميلين لي هما أليكساندرا روساتي وبرايان هير تأثير التأطير عند أقرب نوعين حيوانيين إلى الإنسان هما البونوبو والشمبانزي.

درسنا سلوك 23 شمبانزي في ملتجأ Tchimpounga للشمبانزي في جمهورية كونغو و17 بونوبو في جمهورية كونغو الديمقراطية. وخلال هذه الدراسة قدمنا للقردة عدة حبات فستق سوداني وبعض الفاكهة. في السيناريو الإيجابي الذي يتصف بوجود «ربح» كنا نضفي على الفاكهة «إطاراً» إيجابياً: في البداية كنا نعرض على القردة قطعة واحدة، ولكن في نصف الحالات التي كانت القردة تختار الفاكهة كنا نعطيها قطعة أخرى أيضاً. وبطريقة مماثلة أنشأنا السيناريو «السلبي» الذي أضفينا فيه على الفاكهة تأطيراً سلبياً: هنا كنا نعرض على القرد وجبة فواكه من قطعتين، ولكن في حال اختيار القرد لها كنا نأخذ من الوجبة في نصف الحالات إحدى القطعتين ولا نعطي القرد إلا القطعة الأخرى.

ومع أن القردة كانت في كلا السيناريوهين تحصل على نتيجة مماثلة، أي احتمال 50 إلى 50 للحصول على قطعة واحدة أو قطعتين، كانت تختار الفواكه أكثر عندما كان تأطيرها إيجابياً. أي أن القردة تتخذ هي الأخرى قرارات اقتصادية لاعقلانية.

وبما أن البونوبو والشمبانزي والبشر عرضة لتأثير التأطير، من المستبعد أن هذه الخاصية تطورت عند كل واحد من هذه الأنواع الثلاثة بصورة مستقلة، بل على الأغلب ظهرت تحيزات الخيار خلال عملية التطور. يحتمل أنها كانت موجودة عند السلف المشترك الأخير للشمبانزي والبونوبو والإنسان الذي عاش منذ حوالي 6 ملايين سنة، وقد تكون ظهرت قبل ذلك بكثير.

إن كون تأثير التأطير مشتركاً بين عدد من الأنواع البعيدة عن الإنسان يسمح بالاستنتاج التالي: هذه التحيزات لها جذور بيولوجية عميقة ويمكن أن تظهر في غياب تجربة التفاعل مع الأسواق التي لا يتعامل فيها إلا البشر. من المحتمل أن تحيزات الخيار قد تطورت استجابةً لتحديات معينة في البحث عن الغذاء، ويمكن أن تكون قد تطورت كنتيجة ثانوية عند اصطفاء صفات أخرى مثل الانفعالات.

اكتشفنا مميزة مهمة، هي أن الذكور معرضون لتأثير التأطير أكثر من الإناث. عند الناس تظهر الاختلافات بين الجنسين في عمليات اتخاذ القرارات نتيجة عوامل مختلفة، بما فيه مميزات التنشئة الاجتماعية والفروق في الدوافع وتجربة التفاعل مع الأسواق.

تؤكد البحوث التي أجريناها على أهمية دراسة جمهرات كبيرة من الحيوانات؛ فبما أنها لا تتصف بالكثير من الخصائص الفريدة الموجودة في المجتمعات البشرية، يمكن من خلالها دراسة الفرضيات الأكثر عمقاً حول منشأ فروق منفردة في عمليات اتخاذ القرارات عند الإنسان.

تكمِّل نتائجنا العديد من دراسات عمليات اتخاذ القرار عند الإنسان التي تشكل معاً موضوعاً متناسقاً: تحيزات الخيار لها جذور عميقة مما يعرقل العقلانية؛ فحتى علماء النفس الذين يعرفون هذه الظواهر جيداً يمكن أن يتأثروا بالحيل الدعائية في حياتهم اليومية: في مركز تجاري أو محل خضراوات أو مقهى محلي.

ومع أن الدراسات حول عمليات اتخاذ القرارات يمكن أن تسهل بناء استراتيجيات تسويقية أكثر فعالية، إلا أنها قد تكون كذلك مفيدة للعاملين في المجال الصحي والقطاع المصرفي وتخطيط المدن من أجل إنشاء بيئة عالية الجودة التي يشعر الناس فيها بالسعادة ويتخذون القرارات المفيدة.

المصدر: Quartz

الرجاء وصف الخطأ
إغلاق