هل هي مكافحة الماضي الوثني أم مكسب سريع؟
كانت مدينة الحضر العراقية في الماضي السحيق عاصمة مملكة مزدهرة صدت مرتين حصار الجيوش الرومانية لها، لكنها سقطت في يد الفرس في القرن الثالث الميلادي. وفي بداية مارس هذه السنة أكمل مقاتلو داعش تدميرها، وأصدر الجهاديون بهذه المناسبة فيلماً كاملاً. يبدأ الفيلم من لقطات جوية، وهناك علامات حمراء على بعض المباني، وتصفها الكتابة في اللقطة بأنها: «الأصنام والأوثان». ثم تصور الكاميرا كيف يقوم المقاتلون بتكسير التماثيل العريقة بالفؤوس والمهدات، ويرمون التماثيل التي يصعب الوصول إليها من بنادق كلاشنيكوف. وفي زاوية الصورة رمز الإرهابيين: الراية السوداء للدولة الإسلامية.
نشرت الجماعة الإرهابية في الإنترنت مقاطع فيديو أخرى تصور تدمير أجزاء مدينة كالح (نمرود) القديمة والتماثيل في متحف الموصل. ومؤخراً كادت حشود داعش تستولي على تدمر السورية، إلا أن القوات الحكومية دحرتها.
ويشرح الصوت المرافق للمشاهد أن «محمداً أمرنا بتحطيم الأوثان ومحاربة الوثنية». ويقول المعلق في أحد مقاطع الفيديو:
«نمتثل بكل رضا لأوامر نبينا، حتى لو كلفنا ذلك مليارات الدولارات»
أغلب المقالات في الصحافة الغربية تعتبر تصريحات الإرهابيين صادقة. إلا أنها مخطئة في تقديرها: ما ينطلق منه المقاتلون ليس مجرد الرغبة في تدمير الفن «الوثني» ما قبل الإسلام بل لديهم أغراض منهجية مبرمجة.
أحد هذه الأغراض هو الكسب المادي. مع أن أصحاب مقاطع الفيديو يزعمون أنهم لا يأبهون «بمليارات الدولارات»، الآثار القديمة يمكن أن تكون ثمينة جداً. يصور الفيديو تدمير التماثيل الضخمة الشهيرة صعبة النقل التي يصعب إخراجها من سوريا والعراق، كما أنه من الصعب أن تجد شخصاً يشتري بضاعة من الواضح أنها مسروقة.
ولكن ما مصير التحف الأخرى الأقل شهرة وحجماً من متحف الموصل؟ قال عالم الآثار العراقي عبد الأمير الحمداني الذي يعمل في جامعة ولاية نيويورك الحكومية في ستوني بروك لجريدة نيويورك تايمز أن سكان الموصل شاهدوا مقاتلي داعش يحملون التحف من المتحف ليبيعوها. بعد ذلك تنضم هذه القطع إلى سيل من الآثار العريقة المتدفقة من الأراضي التي يسيطر عليها الجهاديون الذين ينهبون المتاحف والمواقع الأثرية.
مشكلة نهب الآثار في هذه المنطقة التي تحوي أطلال الكثير من المدن القديمة ليست حديثة العهد. ففي سنة 2003، بعد سقوط صدام حسين، لم تكن المحافظة على التراث الأثري من أولويات الحكومة. أما فيما يخص سوريا، فقد بدأ نهب الآثار فيها، وفق تحليلات للصور من الأقمار الصناعية، فور بداية العمليات القتالية في سنة 2012.
ولا عجب في ذلك: لم يكن هناك أي وسائل لكسب الرزق، فبدأ السكان المحليون باستخراج القطع الفنية القديمة. إلا أن الدولة الإسلامية نشّطت عملية التدمير حيث أنشأت جماعات من المختصين المزودين بالآليات الثقيلة الذين يستطيعون كشف آثار مدينة قديمة خلال أيام معدودة.
تهرَّب الأغراض المستخرجة عبر الحدود العراقية إلى تركيا والبلدان المجاورة الأخرى وينتهي بها المطاف بين يدي جامعي الآثار عديمي الضمير من أوروبا وبلدان الخليج العربي. تجري عملية الشراء عبر الإنترنت، حيث يرسل البائعون الصور أو يصورونها بالفيديو خلال جلسات دردشة. صادرت سلطات لبنان وتركيا مئات القطع المسروقة من سوريا، إلا أن ذلك ليس سوى غيض من فيض. حسب تقديرات الخبراء، تعرض القطع الثمينة المستخرجة مؤخراً للبيع مقابل عشرات آلاف الدولارات، بما في ذلك في معارض لندن.
بعض القطع يبيعها ممثلو الدولة الإسلامية مباشرة، وفي هذه الحالة تعود الأرباح إلى الخزينة. كما أن الجماعة ابتكرت طريقة للحصول على الربح دون تلويث أيديها: يضطر السكان السوريون والعراقيون المعدومون إلى البحث عن القطع في المواقع الأثرية، فتتابع الدولة الإسلامية هذه العملية وتفرض ضريبة 20٪ من ثمن الموجودات. حسب المعطيات المتوفرة لدى مبادرة التراث السوري في الكلية الأمريكية للبحوث الاستشراقية في جامعة بوسطن، تسمح «دولة الخلافة» لمقاتليها أحياناً بتحصيل هذه الضريبة مقابل رواتبهم، ويسلم المقاتلون جزءاً من الأموال المحصلة إلى القيادة العامة.
طبعاً، الدولة الإسلامية تخفي تورطها في المتاجرة بالآثار لأن ذلك يخالف أوامر الرسول بتدمير الأصنام. تتفاخر مجلة Dabiq الإلكترونية الناطقة بالإنكليزية والتابعة لداعش بالصدى الذي أثارته في الصحافة الغربية لقطات تدمير نينوى لأنها «أغضبت الكفار، وهذا بحد ذاته محبب لله».
مع أن الجماعة تحاول نشر الدعاية بأنها تدمر الفنون قبل الإسلام، إلا أنها تدمر الآثار الإسلامية أيضاً. يفجر مقاتلو الجماعة معابد جميع الأديان: الشيعية والصوفية والمسيحية واليزيدية. عادةً ما يستعملون حاويات بلاستيكية تحوي مواد متفجرة سائلة لتحقيق التفجير الموجه. وعندما يرى القاطنون في تجمع سكاني راية داعش السوداء فوق معبدهم يعرفون أن المقاتلين سيدخلونه بعد عدة أيام ويشرعون بالقتل. البعض يهرب والبعض الآخر يفضل أن يفدي نفسه ويحافظ على أهم الآثار المقدسة، هذا إذا بقي لديه مال.
عقوبة التدمير
تدمير الآثار على يد الدولة الإسلامية ليس أثراً جانبياً للحرب، فتعامل داعش مع الفن جزء هام من استراتيجيته المالية والتجنيدية، وهذه الأفعال تخرق القانون الحربي الدولي. سوريا والعراق عضوان في اتفاقية لاهاي 1954 حول حماية التراث الثقافي في حال النزاع المسلح. تشمل هذه الاتفاقية الحروب الداخلية أيضاً فتحظر على الأطراف المشاركة فيها «أي شكل من أشكال السرقة أو النهب أو الحيازة غير المشروعة أو أي تخريب للتراث الثقافي». ومن واجب سوريا والعراق بصفتهما من الدول الموقعة على الاتفاقية، وبعد التغلب على الدولة الإسلامية، بتنظيم تحقيق في جميع حالات خرقها. تستطيع الأمم المتحدة هي الأخرى الشروع في ملاحقة المتسببين في تدمير التراث الثقافي بتهمة الجرائم ضد الإنسانية، ربما بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، في حال عرضت العراق أو سوريا هذه القضايا لدراستها ضمن نطاقها القضائي.
عدا ذلك، يمكن تشكيل محكمة خاصة إثر الحرب؛ ففي نطاق المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة حوكم عدة أشخاص بتهمة تدمير التراث الثقافي خلال النزاعات المسلحة في البلقان، إذ تم إقرار أن التدمير المتعمد للتراث الثقافي للمجموعة الإثنية المطاردة جزء هام من إبادة الجنس.
سيكون التحقيق في أمثال هذه القضايا والمحاكمات بموجبها عملية مكلفة يتطلب إجراؤها بكفاءة عوناً مادياً وتنظيمياً من الخارج. قد يتبادر أن بعد زوال الخطر المباشر من داعش لن يعود معنى لتبديد الوقت والمال على مثل هذه التحقيقات، والأفضل التركيز على جرائم القتل والعنف تجاه المدنيين. إلا أن الدولة الإسلامية يجب معاقبتها على الجرائم ضد الأشخاص والجرائم ضد الثقافة على حد سواء، ولذلك أسباب وجيهة.
لا يجوز أن تستمر داعش بلا رادع في استخدام واحدة من أبسط طرائق تمويل عملياتها وأقلها خطراً. تستند الدولة الإسلامية إلى التجنيد المستمر للجهاديين الجدد، ويجب أن يعرف الجميع أن أي فعل يدعم الجهادية، بما فيه الاتجار بالقطع الأثرية المسروقة، هو فعل معاقب عليه.
لا يمكن استرجاع أرواح ضحايا المقاتلين، إلا أن القضية الجنائية قد تسمح بتتبع مصير الآثار حتى مشتريها، وسوف تذكِّر الآثار بعد عودتها إلى مواطنها بأن هذه المنطقة تعايشت فيها يوماً بسلام جماعات ثقافية ودينية متباينة. مثلاً، كان في الحضر هياكل لآلهة إغريقية وآلهة بلاد ما بين النهرين وآلهة الكنعانيين وآلهة العرب قبل الإسلام.
يقول عمرو العظم، عالم الآثار السوري:
«فبمجرد انتهاء أعمال العنف الحالية، سيحتاج الشعب السوري إيجاد سبل لإعادة الاتصال مع الرموز التي وحدته على اختلاف مساراته الدينية والسياسية فيما سبق. إنّ الماضي القديم للبلاد المتجسد في هذا التراث الثقافي الغني سيكون المفتاح لذلك».
يستحق ضحايا هذه الحرب كل مساعدة ممكنة، بما في ذلك المساعدة في استعادة التراث الثقافي المفقود.