العالم يحتاج إلى عملة شفافة
الصفحة الرئيسية تحليلات

إن جون ناش الذي قضى منذ أيام في حادث سيارة، كان رمز الرياضيات والاقتصاد في القرن العشرين، وحاز جائزة نوبل وجائزة آبيل، وكانت سيرة حياته أساس الفيلم الشهير «العقل الجميل». وعدا ذلك، طرح مفهوم «النقد المثالي» الشهير.

تنشر Insider.pro محاضرته المكرسة لهذه النظرية على عدة أجزاء. كان موضوع الجزء الأول هو نظرية «النقد المثالي»، وتحدث الجزء الثاني عن المنظور الذي يجب دراسة النقد منه. الجزء الختامي من المحاضرة هو الأسباب التي تدعو إلى جعل السياسة النقدية شفافة بالنسبة لمستخدمي العملة.

العملات المتنافسة

يمكن أن نلاحظ أن بعض أنواع المؤسسات المالية، كشركات التأمين الدولية الضخمة، تميل إلى نقل أعمالها إلى المناطق التي تتصف عملتها بجودة عالية نسبياً (سويسرا مثلاً). يحتمل جداً أن عدد العملات العالمية الأساسية سينخفض قربياً، وتلك التي تبقى ستتنافس بين بعضها.

عندنا الآن اليورو الذي جعل قصة تضخم الليرة الإيطالية من نصيب التاريخ. وفي المستقبل من الممكن أن تظهر عملة دولية مشابهة للعالم الإسلامي أو جنوب آسيا أو أمريكا الجنوبية أو إقليم آخر. وإذا استخدم القائمون على هذه العملات الدولية استراتيجية «استهداف التضخم» فستظهر لدينا فرص شيقة لمقارنة مؤشراتها.

ستحصل كل عملة تدار بهذا الشكل على وضع تضخمي خاص بها ومعترف به رسمياً، وسيتحدد بمؤشر الأسعار الداخلي للدولة. ولكن عدا ذلك، وهو الأهم من وجهة النظر الدولية، ستتناسب أسعار صرف مختلف العملات بحيث تتوافق مع القدرة الشرائية الفعلية. سوف يستطيع المستخدمون أو المراقبون مقارنة العملات المختلفة المدارة بواسطة «استهداف التضخم» وتشكيل رأي حول جودتها. وهذا ما أريد اقتراحه: أن يستطيع أولئك من يمثل النقدُ بالنسبة له بالدرجة الأولى المكافئ الشامل للتبادل أن يشكل رأياً نقدياً عن «العملة السيئة».

أقصد أن الجمهور سيتعلم المطالبة «بالعملة الجيدة» لأنها يمكن أن تدار بحيث تكتسب نوعية أفضل (والعكس ممكن أيضاً، وهذا ما لاحظناه في شتى العملات الوطنية في القرن العشرين). وهذا يجعل وجود النقد «المقارب للمثالي» ممكناً. إذا انطلقنا من فكرة تحديد القيمة الموضوعية للعملة بناء على مؤشر الأسعار الداخلي في أراضي دولة واحدة، فمن الطبيعي والمنطقي أن ننتقل إلى مفهوم مقارنة قيمة العملات على المستوى العالمي. وسوف يستطيع المستخدمون – أو من يقف أمام خيار استخدام هذه العملة أو تلك – دراسة العملات قيد المقارنة، مثل العملات المعاصرة من يورو ودولار وين وجنيه والفرنك السويسري والكرونا السويدية وغيرها، دراسةً نقدية. وهذا سيدفع العملات إلى السعي نحو تحسين الجودة، ومن ثم نحو خفض سرعة خسارة القيمة نتيجة التضخم.

ولتوضيح مفهوم اختيار العملة لنتذكر كيف قررت السويد في استفتاء ما إذا عليها التخلي عن الكرونا والدخول في منطقة اليورو، ومن ثم استخدام العملة نفسها التي تستخدمها فنلندا. صوَّت الشعب ضد ذلك لأسباب مختلفة، ولكن الخيار تحدد بمدى ثقة الناس بالجودة المستقبلية للعملة المختارة وما إذا كانت تعتمد على القرارات السياسة والتصرفات الاعتباطية للبيروقراطيين.

يحق لنا كل الحق أن نفكر كيف يمكن أن يؤثر التأخر في تقبُّل اليورو على السياسة التي تتحكم بالأرقام الفعلية لسعر صرف هذه العملة. اليورو في أساسه «عملة ورقية»، أي إذا انتشرت الشكوك في قيمته فلا يمكن ضمان أي شيء. على كلٍّ، هذا يميز جميع العملات المتداولة في الحاضر.

طبعاً، عندما يكون لقيمة عملة ما خلال فترة ما أساسٌ غير قرار الحكومة المحلية (مثل عملة الأرجنتين التي كان سعر صرفها مربوطاً بالدولار الأمريكي حتى زمن قريب)، يستطيع المراقبون الدوليون بحقٍّ التشكيك في مثل هذه الطريقة لتثبيت القيمة. ليس من الضروري أن تكون مثل هذه الوسائل لتحديد القيمة معيبة، ولا سيما عندما يربط اقتصاد صغير، مثل اقتصاد بنما، عملته بعملة اقتصاد أكبر، مثل اقتصاد الولايات المتحدة. مثل هذا الربط يشكل عبئاً على أساس قيمة العملة المرجعية: مثلاً، لو قررت جميع الدول غير الأوروبية أن تحدد أسعار عملاتها بالتناسب مع اليورو دون أن تنضم لنظام الضوابط الذي يحكم العملة الأوروبية فسيؤدي ذلك على الأغلب إلى زعزعة استقرار اليورو بافتراض أنه كان مستقراً وعالي الجودة في غياب هذا العامل.

التطور السياسي

يبدو أن السياسة خالدة خلود الموت والضرائب، ولكن مدى تغير السياق السياسي يثير العجب، لذا أعتقد أن الكينزيين يشبهون فصيلاً سياسياً سيفقد نفوذه تدريجياً نتيجة التطور السياسي. لم يكن الفكر «الكينزي» موجوداً قبل أن يتشكل ما يمكن أن نسميه «الشيوعية على الطريقة البلشفية» في روسيا. وبإضافة هذه الصفة المميزة، «البلشفية»، نستطيع أن نميز أي مفهوم نظري أو مثالي للشيوعية عن نظام الحكم الفعلي الذي تشكل يوماً في روسيا وبدأ بممارسة السلطات الحكومية (تزعم الدول في كل العالم أن أنظمتها مكرسة بكل إخلاص ومثالية لمصالح المواطنين، أما الناقد الخارجي فيمكن أن يبرهن أن ذلك ليس إلا شكلاً من أشكال الاستبداد).

يعتقد الكينزيون ضمناً أن الإداريين الجيدين بالتعاون مع وزارة المالية والبنك المركزي يمكن أن يجلبوا منافع كثيرة، وأن المواطنين العاديين، أي «زبائن» عملتهم، لا داعي – بل لا يجب – أن يعرفوا ما الذي يفعله هؤلاء وكيف سيؤثر ذلك على جيوبهم. في رأيي، هذا يشبه قصة «الشيوعيين البلاشفة» الذين سعوا إلى شيء أكبر من «الديمقراطية البرجوازية» التي كانت للأسف موجودة في بعض الدول الأخرى. ولكن في نهاية المطاف تبين أن نظام «دكتاتورية البروليتاريا» يصعب تمييزها عن أي نظام دكتاتوري عادي آخر. ويمكن تشبيه هذا بسلوك الكينزيين، فهم يصرحون أنهم يعملون من أجل أهداف سامية نبيلة لتحقيق الرفاه للجميع، ولكن في الواقع الشيء الوحيد الذي يحققونه هو أنهم يسهلون على الحكومات مهمة طباعة العملة.

إذن، يبدو لي أن الكينزيين يشبهون من نواحٍ معينة البلاشفة، فكلا الفصيلين يؤيدان شيئاً من «غياب الشفافية» في وظائف الحكومة، وينطبق على كليهما القول أنهما يميلان إلى التفكير من منظور المؤسسات الحكومية التي تعمل بأسلوب خيّر، ولكن لا يستطيع المواطنون العاديون فهمه.

وهذا التشابه يدفعنا إلى التوقع بأن عملية التطور السياسي سيحمل مواطني «الديمقراطيات العظمى» عاجلاً أو آجلاً إلى تبني الرأي بأنهم يجب أن يعرفوا بشكل أفضل تفاصيل السياسة النقدية، لأنها في الواقع ذات أهمية كبرى بالنسبة للناس الذين يختارون المكان المناسب للادخار.

الرجاء وصف الخطأ
إغلاق