The Wall Street Journal: تشير الأزمة في اليونان كيف أن النفوذ المتزايد لألمانيا يشطر أوروبا.
الأسبوع الماضي اتهم غريغور غيزي زعيم المعارضة اليسارية تحت القبة الزجاجية للرايخستاغ برلمان ألمانيا اتهم مستشارة ألمانيا أنغيلا ميركل أن بسببها اصطدمت اليونان بالبطالة الفظيعة والانخفاض الرهيب في الأجور والطوابير لشراء الغذاء.
كان يبدو حتى اللحظة الأخيرة أن سلطة ميركل بعد عشر سنوات من بقائها في منصبها غدت لا تزعزع، سواء في ألمانيا أو في كل أوروبا. ولكن بعد أن صوّت اليونانيون في الاستفتاء الأحد الماضي ضد الحصول على المزيد من الإعانات المالية مشكلين بذلك تهديداً لوحدة الاتحاد الأوروبي لأول مرة خلال عشرات السنوات من تاريخه، صارت المخاطر المرافقة لصعود ألمانيا بصفتها أكثر بلدان أوروبا نفوذاً جلية للعيان.
يوم الجمعة خاطب زعيم المعارضة الإسباني بابلو إغليسياس الذي يعارض تدابير التقشف خاطب مواطنيه: «لا نريد أن نكون مستعمرة ألمانية!» ويوم الأحد، بعد إعلان نتائج الاستفتاء، قال السياسي الإيطالي الشعبوي بيبي غريلو: «الآن صار عند ميركل والبنوك ما يفكرون به». ويوم الإثنين انطلقت مستشارة ألمانيا إلى باريس من أجل التفاوض حول الأزمة، إذ ظهرت علامات تشير إلى أن حكومة فرنسا تنوي معارضة سياسة برلين الصارمة تجاه اليونان.
يقول مارسيل فراتزشر رئيس معهد البحوث الاقتصادية الألماني، المؤسسة البحثية الرائدة في برلين:
«ما يحدث الآن هو هزيمة لألمانيا أكثر من أي دولة أخرى. فقد شاركت ألمانيا، أولاً وأخيراً، في اتخاذ أغلب القرارات في أوروبا خلال السنوات الخمس الماضية».
حدث مراراً أن أبدى كبار المسؤولين الألمان في أحاديث شخصية استغرابهم كيف أن بلدهم، رغم ضعف جيشه والمجتمع المنطوي على ذاته، يحظى حالياً في النقاشات السياسية الأوروبية بوزن أكبر من فرنسا وبريطانيا، ويبدو أن نفوذه في العالم وصل إلى أعلى مستوى له منذ الحرب العالمية الثانية.
تميل النخبة المثقفة في برلين، من دبلوماسيين وسياسيين، إلى اعتبار صعود نفوذ ألمانيا أمراً إيجابياً، ويتحدثون عن الاستقرار والصبر والانضباط، الأمور التي ترتكز عليها إدارة البلاد اليوم، وأن في زمان مضطرب مثل زماننا هذه الصفات هي ما تحتاجه أوروبا أكثر من أي شيء آخر. ستخسر ألمانيا، نظراً لاقتصادها المعتمد على التصدير وتاريخها المؤلم في البحث عن الشخصية القومية، أكثر من الجميع فيما إذا سقط التكامل الأوروبي، ويقولون أن ألمانيا مستعدة لفعل أي شيء للمحافظة على قوة الاتحاد.
بقيت شعبية ميركل في بلدها عالية خلال تطور الأزمة في اليونان، حيث أشار استطلاع رأي في نهاية يونيو أن مستوى دعم المستشارة لا يزال 67٪. والآن عليها أن تقرر فيما إذا كان من الضروري تقديم تسهيلات إضافية لليونان كي تبقى في منطقة اليورو ولتبقى العضوية في العملة الموحدة لا رجعة عنها، مع العلم أن هذا يترافق بخطر تذمر مواطني ألمانيا وغضب الجهات المالية الألمانية المتشددة. لم يدعم إلا 10٪ من الألمان في استطلاع آخر الأسبوع الماضي فكرة المزيد من التسهيلات لليونان.
اعتادت الشخصيات الرسمية الأمريكية اعتبار الدور القيادي لألمانيا عاملاً جيوسياسياً هاماً، وأعطوا تقديراً عالياً لتصرفات المستشارة في السنة الماضية حين استطاعت إقناع بلدان الاتحاد الأوروبي الثمانية والعشرين جميعها بفرض العقوبات ضد روسيا. ولكن ضمن أوروبا نفسها يعرِّض تزايد نفوذ ألمانيا للخطر وحدة الاتحاد الأوروبي الذي نشأ كشراكة بين الأنداد، ويحاول الآن جاهداً التكيف مع تسلط أحد أعضائه.
ومع كل أزمة تشارك فيها ميركل بصفة منقذة أوروبا، يقوى عند مواطني الاتحاد الأوروبي أكثر فأكثر اشتباهٌ أن وراء كل هذا الكلام حول «المشروع الأوروبي» الواحد يختبئ من يتحكمون بالأمور فعلاً، وهم ألمانيا والبيروقراطيون المجهولون في بروكسل.
إذا تعمقت أزمة منطقة اليورو أو إذا صارت سياسة برلين أكثر إصراراً، سيزداد التذمر في أوروبا من النفوذ الألماني فيها.
اليونانيون يتظاهرون ضد شروط الدائنين، وفي الخلفية ملصق فيه صورة وزير مالية ألمانيا فولفغانغ شويبله، قبل استفتاء يوم الأحد
إذا تعمقت أزمة منطقة اليورو أو إذا صارت سياسة برلين أكثر إصراراً، سيزداد التذمر في أوروبا من النفوذ الألماني فيها.
وفي الأسبوع الماضي في اليونان كانت بعض الملصقات التي تدعو إلى رفض عرض المساعدة المالية من أوروبا تحمل صورة الوجه الصارم لوزير مالية ألمانيا فولفغانغ شويبله البالغ 72 سنة من العمر، وكتب على اللافتات: «لقد بقي يمصّ دماءنا خمس سنوات، وآن الأوان أن نقول له "لا"».
وفي المظاهرات الداعمة لليونان التي تجري في الفترة الأخيرة في مدريد، يقول المتقاعد إيلاريو مونتيرو عن برلين وبروكسل: «إنهم يريدون إذلال اليونان ليرسلوا بذلك رسالة إنذار إلى إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، ويلمّحون بأنه ممنوع علينا أن نقطع الخط الأحمر».
انشطار الآراء
إن ألمانيا، مثلها مثل أمريكا على مستوى العالم، تشطر أوروبا بنفوذها. الجماهير تحب ميركل، مع أن السياسيين الشعبويين يقولون أنها تبني الرايخ الرابع لمصلحة الرأسمالية الألمانية.
مثلاً، في إسبانيا بيّن استطلاع الرأي في يونيو أن ميركل تحظى بأعلى نسبة استنكار بين السياسيين الأجانب بعد رئيس روسيا، حيث استهجنها 54٪ من المجيبين؛ ولكن هي نفسها لديها أعلى نسبة استحسان، 39٪، سابقةً بذلك قادة إيطاليا والمفوضية الأوروبية ومنظمة الأمم المتحدة.
وتشاهد ديناميكيات مماثلة في فرنسا، فبينما أكثر من نصف الفرنسيين لم يستحسنوا سياسة ميركل تجاه الأزمة اليونانية الأسبوع الماضي، إلا أن ثلثي أنصار حزب يمين الوسط الرئيسي عبروا عن دعمهم لها.
بعد أن طلبت اليونان المساعدة في سنة 2010، توجه قادة البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي إلى برلين لإقناع المشرّعين الألمان بإقرار القرض. وبعد سنة من ذلك أصرت ميركل على تشديد القواعد الناظمة لتدفق الأموال ضمن منطقة اليورو.
في سبتمبر السنة الماضية اتجه أنتونيس ساماراس، رئيس وزراء اليونان حينها، إلى برلين وخاطب المستشارة. صرح لها أن التدابير الاقتصادية غير الشعبية التي أُجبرت اليونان عليها كشرط لحصولها على المساعدات، بما فيه التغييرات في قوانين التقاعد والضرائب، فضلاً عن القواعد الجديدة لتنظيم العمل وقطاع المصارف والرواتب، أدت إلى صعود حركة سيريزا اليسارية الراديكالية.
أصرّت ميركل على موقفها ورفضت جميع المقترحات حول تخفيف عبء الديون، ونصح كبار الموظفين الألمان اليونان بإجراء الإصلاحات غير الشعبية فوراً.
وفي فبراير أرسلت أثينا إلى وزير مالية منطقة اليورو رسالة فيها طلب تمديد برنامج الدعم المالي؛ وقبل أن تتاح للوزراء فرصة دراسة الرسالة والتشاور حول الموضوع، أرسلت وزارة المالية الألمانية بعد عدة ساعات فقط من وصول الرسالة تصريحاً قصيراً للصحافة بالبريد الإلكتروني: «إن الرسالة من أثينا لا تحوي مقترحات جوهرية»، وذلك منعاً لأي مداولات محتملة.
وفي بداية الأسبوع الماضي، بينما كان المسؤولون الأوروبيون، بما فيهم رئيس فرنسا فرانسوا أولاند، يصرحون بآمالهم حول إمكانية حل المسألة قبل الاستفتاء يوم الأحد، أومأت ميركل فوراً بأنه لن يكون هناك أي مفاوضات قبل التصويت، وكان رأيها هو الأعلى.
على مدى عدة عقود بقيت فرنسا وألمانيا معاً يقودان سياسة أوروبا. تعارضت وجهات نظرهما في أحيان كثيرة، وكانت الحلول الوسط التي يتوصلان إليها ترضي باقي أوروبا.
ولكن وقعت ثمة تبدلات: المعارضة الواسعة للحرب في العراق والإصلاحات الاقتصادية الليبرالية التي أطلقها المستشار السابق غيرهارد شرودر في سنة 2003 وصعود الوعي القومي في صيف 2006 عندما استضافت ألمانيا كأس العالم لكرة القدم، وبالنتيجة، فإن البلد الذي لم يستطع أن يتخلص من شبح النازية نهائياً صار لديه ثقة أكبر بالنفس.
أضعفت المشاكل الاقتصادية في فرنسا موقعها على المسرح الأوروبي، بينما سياسة بريطانيا كانت تتوجه أكثر فأكثر إلى الانغلاق.
أجرى الحزب الديمقراطي المسيحي بقيادة ميركل في نوفمبر 2011 مؤتمره السنوي في ألمانيا الشرقية في أرض معرض لايبزيغ العريق ونوقشت فيه زيادة نفوذ ألمانيا. وكان في ذلك الوقت قد مضى سنة ونيف من لحظة طلب اليونان للمساعدات المالية لأول مرة. وكانت بعض البلدان الأوروبية، بما فيه فرنسا، تميل بادئ الأمر إلى معارضة المطالبة بالتقشف الصارم مقابل الدعم. إلا أن ميركل التي مضت طفولتها في ظل الشيوعية، وكانت عالمة فيزياء سابقاً ثم صارت رئيسة البلد الأوروبي ذي أقوى اقتصاد، كان صوتها في نتيجة النقاش هو الغالب.
صعدت نسبة استحسان ميركل من 40٪ في سنة 2010 إلى 70٪ في سنة 2013، وبقيت في هذا المستوى. والكلام الذي بقي السياسيون الألمان يكررونه ساعد ميركل على المحافظة على دعم الناخبين، ولو أنه أزعج باقي الأوروبيين: البلدان التي تطلب المساعدة يجب أن تأخذ على عاتقها التزامات ومساهمات معينة.
مواجهة بوتين
قررت أنغيلا ميركل في مارس 2014 أن تجعل ألمانيا اللاعب الرئيسي في سياسة أوروبا فاستخدمت لهذا كامل نفوذها حين تحدت بوتين. قبيل ضم القرم أنذرت المستشارة التي كانت تتجنب سابقاً التصريحات القاسية أن روسيا ستتحمل «ثمناً سياسياً واقتصادياً هائلاً» إذا لم تتوقف عن التدخل في شؤون أوكرانيا.
استطاعت ميركل أن تحصل على قرار بالإجماع لأعضاء الاتحاد الأوروبي بفرض العقوبات على روسيا محاولةً منها لإيقاف بوتين، وفي هذه الصورة اللقاء بين الرئيسين في 10 مايو من هذه السنة
وفي الأشهر التالية كانت ميركل تؤمِّن وحدة قرار الاتحاد الأوروبي في إدخال مراحل جديدة من تشديد العقوبات. وتشير استطلاعات الرأي أن سلوكها الصارم كان ينفر المجتمع الألماني المسالم الذي يفضل عدم المشاركة في السياسة الخارجية والمحافظة على علاقات جيدة مع العدو السابق.
ويشعر الجزء الشرقي من الاتحاد الأوروبي بعدم الارتياح لموقف ألمانيا من أوكرانيا. فحتى برلين، وهي تصر على العقوبات، دعت الدبلوماسيين الغربيين المتشددين إلى عدم استفزاز روسيا بتصرفات مثل نشر قوات حلف شمال الأطلسي قرب حدود روسيا.
تثير تصرفات برلين في فرنسا الانتقادات من الأحزاب اليمينية المتطرفة واليسارية المتطرفة في آن واحد. وقال 74٪ من المجيبين على استطلاع رأي أجري في فرنسا في ديسمبر السنة الماضية أن ألمانيا صار لها دور بارز أكثر من اللازم في سياسة الاتحاد الأوروبي.
نشر الخبير في العلوم السياسة البرليني الكبير هيرفريد مونكلر في مارس كتاب «القوة في الوسط» (The Power in the Middle)، وصف فيه نظرة النخبة الألمانية إلى السياسة الخارجية، ويقول أن ألمانيا اضطرت إلى قيادة أوروبا لأن بروكسل وبلدان الاتحاد الأخرى لم يكن لديها النفوذ الكافي لذلك.
إلا أن مونكلر قال في مقابلة صحفية الأسبوع الماضي أن أوروبا بقيادة ألمانيا «حل قصير الأمد»، ويقول أن ألمانيا يحتمل أن يصعد فيها حزب شعبوي ناجح، مع أن الاستطلاعات الحالية لا تشير إلى ذلك، مثلما صعدت أحزاب شعبوية في أغلب الدول المجاورة لها، من بولونيا إلى هولندا وفرنسا. وفي هذه الحالة سيتعالى في ألمانيا الخطاب القومي، وهذا من شأنه أن يزيد كره الأوروبيين للدور القيادي الألماني في الاتحاد الأوروبي.
يقول مونكلر: «تحافظ ألمانيا على الدور القيادي في أوروبا بفضل غياب أحزاب يمينية شعبوية فيها».
وهنا تحديداً تكمن أهمية المواجهة مع اليونان لتحديد مكانة ألمانيا في أوروبا المستقبل.
فإذا أقرت ميركل بعد أسبوع من الجدالات الخطة الجديدة لإنقاذ أثينا، سيثير ذلك على الأغلب عاصفة في المعسكر اليميني في ألمانيا وينشط حركة المتشككين تجاه الاتحاد الأوروبي.
أما إذا خرجت اليونان من منطقة اليورو، فسوف يوجَّه اللوم إلى المستشارة الألمانية على هذه الواقعة التي تشطر أوروبا أكثر في ظروف الجدل حول عضوية بريطانيا ومشاكل المهاجرين والوضع في أوكرانيا.