تطور نظريات الاقتصاد الكلي
الصفحة الرئيسية اقتصاد

يحكي الأستاذ في الاقتصاد جيمس برادفورد ديلونغ عن الأسئلة التي كانت تقلق كبار الاقتصاديين منذ ربع قرن، وما إذا حصلنا على أجوبة عنها.

طرح الكثيرون من أساتذتي العديدين (الذين اعتبرهم خبراء في مواضيع الاقتصاد الكلي الأكاديمي المتوجه للسياسات)، أو على الأقل أكثرهم واقعية، عدداً من الأسئلة الأساسية. أولها كان: هل حانت نهاية طراز الدورة الاقتصادية لجيل «العمالة الكاملة» الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك عصر التضخم المعتدل والنمو الاقتصادي السريع؟ والسؤال الثاني هو حول الطريقة المثلى لتقييم الدورة الاقتصادية التي دخلناها بعد انتهاء عصر «السنوات الثلاثين المجيدة» بعد الحرب العالمية الثانية.

لاري سمرس

كان لاري سمرس هو الأول في منشوره في سنة 1991 بعنوان «كيفية تحديد السياسة النقدية التسليفية طويلة الأمد». لم يكن سمرس متأكداً من تغير نظم السياسات الاقتصادية والواقع الاقتصادي، ولذا كان هدفه الأول هو تقوية الاستقلال التكنوقراطي للبنك المركزي: «يجب أن تأخذ المؤسسات على عاتقها جهد تحديد القواعد»، وينبغي أن يولى الانتباه إلى «تقوية استقلاليتها». بينما يستطيع السياسيون تحديد الأهداف، بل أن هذا من واجباتهم، فالتكنوقراط يستطيعون العمل على تحقيقها بصورة أفضل من السياسيين الذين يحاولون اتخاذ مسؤوليات الإدارة المحلية أو إنشاء القواعد التي ستشكل بالتأكيد عوائق في ظروف غير متوقعة. وهذا يمكن أن يقي من تكرر اضطرابات التضخم لسنة 1970.

الهدف الثاني الذي حدده سمرس كان إقناع التكنوقراط الذين كان يأمل أن يراهم في مواقع قيادية للبنوك المركزية، أن المستوى المثالي للتضخم يجب أن يكون 2−3٪. لم يجد «بينات تشير إلى أن مثل هذا المستوى المنخفض للتضخم يمكن أن يؤدي إلى عدم الاستقرار»، وفي رأيه، تفويت فرصة تحقيق سعر الفائدة الفعلي الحقيقي خلال التضخم المعدوم، باعتبار أن «سعر الفائدة الفعلي يجب ألا يكون سلبياً إلا في فترات محددة»، يمكن أن يكلف كثيراً، وتزداد هذه التكلفة بفعل ثلاثة عوامل:

  1. وهم توفر نقد حر وانخفاض صرامة عقود العمل والديون؛
  2. تباطؤ الإنتاج سيؤدي في الغالب إلى انخفاض الرواتب؛
  3. اجتماع انخفاض الإنتاجية والتحول الديموغرافي سيؤدي في الغالب إلى انخفاض أسعار الفائدة إلى ما يقارب الصفر.

بول كروغمان

كان الثاني هو بول كروغمان في سنة 1998 في كتابه «عودة الكساد العظيم» ومقالته «العودة: الكساد في اليابان وعودة فخ السيولة». أثبت كروغمان بشكل مقنع أن البنوك المركزية قد نجحت في السيطرة على التضخم وتوقعات التضخم بمستوى منخفض، ونتيجة ذلك عاد الاقتصاد العالمي، أو اقتصاد شمال الأطلسي على الأقل، إلى النموذج الماضي. كانت الصورة تشبه «اقتصاد الكساد» الوصفي للفترة قبل الحرب العالمية الثانية، وفي هذا الاقتصاد أصبح عوز الطلب الإجمالي ومخاطر الانكماش والأزمات المالية وأفخاخ السيولة من الملامح الهامة، وربما الملامح المسيطرة.

كان سمرس يعتقد أن البنوك المركزية التكنوقراطية كان يمكنها حماية الاقتصاد من الاضطرابات التضخمية في السبعينات ومن اضطرابات فترة قبل الحرب المتعلقة بالكساد، بشرط إضعاف التحكم فيها من جانب السياسيين. بينما كان كروغمان يعتقد أن هذا الأمل لا أساس له، وأن النظام الاقتصادي لعصر الكساد العظيم قد عاد.

كينيت روغوف

وفي النقطة الثالثة للمثلث يقع كينيت روغوف. مع أنه كتب تعليقاً على أعمال بول كروغمان في معهد بروكينغس في سنة 1998، إلا أنه أدرك منذ ذلك الحين أنه «لا يتفق تماماً مع الرأي القائل بأن أسعار الفائدة الفعلية على المدى القريب والمتوسط في ظروف العمالة الكاملة تصبح سلبية؛ وحتى لو كان الأمر كذلك، فالحل الأصح على الأغلب هو رفع سعر الفائدة الفعلي على حساب السياسة النقدية المحفزة» من أجل تخليص «السياسات النقدية التسليفية من فخ السيولة المحتمل».

ما يعتبره كروغمان نقطة ضعف على المدى الطويل للوقوع في «اقتصاد الكساد» يعتبره روغوف عواقب مؤقتة لعدم القدرة على تنظيم وتقييد تراكم الديون بالشكل الأمثل. إنما تنبع المشاكل من حلقات تراكم الديون التي تنتهي حتماً بكثرة «الائتمانات الغارقة» في الاقتصاد، وهذه الحلقات يمكن بل يجب إصلاحها بالتقليل المؤلم لجزء الموارد المستدانة بالتزامن مع شطب الديون المفروض من جانب الدولة.

كبار المعلمين الآخرون، مثل جو ستيغليتز وبن برنانكه ومارتين فيلدشتاين والكثيرون غيرهم، لا يرتبطون بأي نظرية محددة بل يبقون في حالة تراكب شرودينغر: فأحياناً يطرحون حججاً وكأننا لا نزال نعيش في عالم فترة 1953−1986 حين كانت البنوك المركزية تدار من قبل شخصيات مثل ويليام ماكتشسني مارتين وآرثر بيرنز وبول فولكر، وأحياناً أخرى يتفقون مع كروغمان أو سمرس أو روغوف.

إذن، ماذا يمكن أن نقول عن هذا الجدال الذي يستمر منذ 25 سنة؟

أهم ما يمكن أن نقوله هو أن الإجابة عن السؤال الأول: هل وصلت الدورة الاقتصادية التي تميز بها الجيل المتشكل بعد الحرب العالمية الثانية إلى نهايته؟ هي «نعم، بالتأكيد».

إن النماذج والمقاربات التي تم تطويرها من أجل فهم الدورة الاقتصادية القصيرة للجيل بعد الحرب وتحيزها للتضخم المعتدل صارت عديمة الفائدة بل ضارة. كما أن سمرس قد ابتعد نوعاً ما عن المعتقدات التي كان يعتنقها في سنة 1991 بأن البنوك المركزية تستطيع، وربما يجب عليها، أن تفسر «استقرار الأسعار» بمرونة كافية لاتقاء «اقتصاد الكساد». حسب رأيه (وأنا أتفق معه) المخاطر الرئيسية، وكذلك وظائف تخطيط الاستثمارات على المدى الطويل ودور الاستثمار في المجتمع، يجب أن تستلم الحكومات إدارتها. ونحن متأكدون أن تلك الحكومات التي تنعم بالامتياز العظيم، وهو إصدار العملات الاحتياطية العالمية، يمكنها أن تتخذ هذا الدور دون خطر إثقال دافعي الضرائب بالديون المفرطة. أما روغوف، فعلى العكس، لا يزال موقفه يشبه آراء هايمان مينسكي التي يعتمد عليها منذ سنة 1998 على الأقل: أن مؤشرات الاقتصاد الكلي الناجحة تحتاج إلى التنظيم المالي وقطع تراكم الديون خلال فترات الازدهار.

وهكذا انطوى مثلث المواقف ليتحول إلى قطعة مستقيمة. ربما كانت البنوك المركزية تستطيع تحقيق اليوطوبيا التكنوقراطية لإدارة الدورة الاقتصادية على مستوى الاقتصاد الكلي التي علق سمرس آماله عليها في سنة 1991، ولكنها لم تقم بذلك. ويبدو أن ليس هناك أي أفكار جيدة حول التغييرات المؤسساتية المطلوبة لتجعلها ترغب وتستطيع تنفيذ هذه المهمة.

هذه القطعة المستقيمة تمثل اختلاف المواقف ليس حسب الأوضاع بالدرجة الأولى، إنما حسب الرأي في قدرة إدارة الاقتصاد الكلي على تصويب الأوضاع. يعتقد سمرس وكروغمان حالياً أن السياسة المالية التوسعية تستطيع تحقيق الكثير من الخير. أما روغوف فلا يزال يعتقد أن محاولة تصويب عبء الديون الخاصة «الغارقة» عن طريق التسليف الحكومي الواسع الذي يعتبر في الحاضر حلاً ناجعاً هي خطرة للغاية في الواقع؛ لأن الائتمان الخاص، لحظة منحه، كان يعتبر آمناً أيضاً.

هذا بعيد عن التفاؤل الذي تميز به عصر الاعتدال العظيم.

المصدر: Medium

الرجاء وصف الخطأ
إغلاق