ما وراء الحقائق والصيغ الرياضية
الصفحة الرئيسية مال

يقص الكاتب والقسيس ويليام داوسون في كتابه «بحثاً عن الحياة السهلة» قصةً عن تقديم الامتحانات في إحدى مدارس لندن في القرن التاسع عشر. وكان أحد الأسئلة: «اسرد باختصار حياة مريم والدة الرب».

يكتب داوسون: «أجاب أحد الشباب الموهوبين: "من المناسب هنا سرد قائمة ملوك إسرائيل"».

يصف داوسون مشكلة شائعة في مدارس تلك الحقبة. لم يكن التلاميذ يعرفون التفكير. كانوا يتعلمون سرد حقائق وصيغ محددة، وأي شيء يحتاج إلى مقاربة إبداعية كان يربكهم، وكأن العالم غير المشمول بالحقائق، أي العالم الذي لا يمكن حفظه عن ظهر قلب، غير موجود بالنسبة لهم. فعند الإجابة عن أي سؤال كانوا يلجؤون إلى الحقائق المعروفة لهم فقط، ما كان يؤدي إلى مواقف سخيفة كالذي وصفه داوسون.

تبرز هذه المشكلة التي كان يجابهها التلاميذ في القرن التاسع عشر بوضوح في عالم المال، إذ كثيراً ما نجد أن العبقري في النظرية الاقتصادية مستثمر فاشل إلى درجة مدهشة حقاً. ليس مستثمراً متواضعاً إنما فاشل تحديداً.

يحفظ أصحاب العقول العظيمة بسهولة الوقائع والصيغ الاقتصادية. ولكن أي مشكلة تحتاج إلى مقاربة إبداعية خلاقة تجدها وكأنها أرض مجهولة بالنسبة لهم. عندما يواجهون مثل هذه المشاكل يلجؤون إلى سلاحهم الوحيد، وهو الحقائق والصيغ التي حفظوها يوماً.

هؤلاء الناس عباقرة الكتب الجامعية، لكنهم لا يدركون كم عقلهم محدود، ولا يدركون حتى السياق الذي يعمل عقلهم ضمنه. إن المعارف غير المدعومة بمرونة التفكير أسوأ من الحماقة الصريحة.

توقع بعض أكبر الاقتصاديين أن الكساد سيحدث حتماً في سنة 2011، وأفضل المستثمرين كانوا متأكدين منذ سنة 2009 أن السوق على حافة هاوية.

كانت تنبؤاتهم تستند إلى تمكنهم التام من المنهجية الرياضية، وكانوا يبنون نماذج توضح ما يجب أن يحدث.

لكن قطاع الأعمال فيه أمور عديدة لا يمكن إجمالها بالصيغ الرياضية. بعض الأمور غير قابل للقياس، وبعضها الآخر لن نفهمه أبداً. لا يمكن حساب تأثير نفسية الناس وسلوكهم الجماعي ووقائع المستقبل، ولا تجد إلا الجنون والعشوائية.

من الصعب أن يسلّم الشخص الذي تعلم أن كل شيء يمكن وصفه بواسطة الصيغ والحقائق بأن الواقع قد يختلف عن ذلك أحياناً. ومثل تلاميذ القرن التاسع عشر، يرفض هذا الشخص أن يرى العالم وراء الحقائق التي حفظها، فيحاول هذا «التلميذ البالغ» أن يتكهن بسلوك الإنسان بواسطة الانحراف المعياري وبقرارات دكتاتور مجنون بواسطة التوزع الطبيعي، فيفشل مرة تلو الأخرى.

إن إدراك حدود إمكانيات عقلك من أهم المهارات في مجال المال. يعطي الكاتب الأمريكي باتريك جيك أورورك تعريفاً للاقتصاد بأنه «مجال علمي كامل ليس عند المختصين به أدنى تصور عن موضوعه»، وهذه ملاحظة دقيقة. عندما يعتقد المرء أنه يعرف شيئاً وهو لا يكاد يعرف به يتحرف إدراكه للمخاطر، فيقبل مخاطرات لم يكن يتصور وجودها ويواجه أحداثاً لم يكن يتوقعها. إن الاعتراف بوجود المجهول والغامض أهم من معرفة المعلوم.

ومن ثم، ربما أهم عبارة في مجال الاستثمار هي: «ليس لدي أدنى فكرة...».

  • ليس لدي أدنى فكرة عما سيحدث للسوق في المستقبل.
  • ليس لدي أدنى فكرة إن كان الكساد سيحدث في هذه السنة.
  • ليس لدي أدنى فكرة متى ستبدأ أسعار الفائدة بالارتفاع.
  • ليس لدي أدنى فكرة عما سيفعله نظام الاحتياطي الفيدرالي.
  • وأنت أيضاً ليس لديك أدنى فكرة.

وكلما استعجل المرء في إقرار هذه الحقيقة استفاد أكثر.

الرجاء وصف الخطأ
إغلاق