الجرائد ليست للمستثمرين
الصفحة الرئيسية مال

يبحث المستثمرون دائماً عن أماكن أفضل لاستثمار أموالهم، ولا يهتمون أبداً بما يحدث في العالم. لماذا لا يستجيب المستثمرون للأسباق الصحفية مثل الناس العاديين؟

في أحدى حلقات المسرحية الهزلية الأمريكية الكلاسيكية «ساينفلد» يقرر الفاشل الدائم جورج كوستانزا بتغيير حياته جذرياً. وبما أن أسلوبه الماضي في اتخاذ القرارات لم يكن يعطي نتائج جيدة (مثلاً، كان يتدافع مع النساء والأطفال وهو يهرب من البيت الذي شب فيه حريق)، قرر أن يتصرف عكس طريقته السابقة تماماً. الغريب أن هذا التصرف أعطى نتائج جيدة. جرّب استراتيجيته الجديدة عندما صادف امرأة جميلة أعجبته جداً. في الحالة العادية كان سيزعم أنه مختص في بيولوجيا البحار أو تاجر أعمال فنية؛ أما بموجب استراتيجيته الجديدة فقد عرّف عن نفسه بأنه مجرد جورج، وقال أنه عاطل عن العمل ويعيش مع والديه. ومن دواعي دهشته أنها قبلت دعوته ووافقت أن تلتقي معه.

ما علاقة هذا بالاستثمار؟ العلاقة مباشرة: تبدو الأسواق بالنسبة لمشاهد خارجي منافية للفطرة وغير منطقية، وكثيراً ما يؤدي اللجوء إلى المنطق إلى زيادة الخسائر. الأهم في الأسواق هو بُعد النظر، أما ما وقع سابقاًً فقيمته قليلة. ولهذا، فعندما ينكب الشخص العادي على قراءة الأنباء عن آخر الأحداث، سيتجاهلها المستثمر الذكي وستبدو أفعاله غير مرتكزة على أي أساس وربما خاطئة. كما قال باري ريتهولز:

«الأحداث دوماً قديمة، ولا تستحق أن نسميها بالأحداث؛ كما أنها لا تنبئ بشيء».

كثيراً ما يبدو الأسود أبيضا في عالمنا، وبالعكس. ومن الخطر عدم إدراك هذا.

الأحداث ليست حديثة

تتكرر ارتكاسات السوق المنافية للحدس مرة تلو الأخرى. مثلاً، في 17 يناير 1991 بدأ القصف الكثيف على قوات صدام حسين. كانت الأسواق قبل بداية العمليات العسكرية تتذبذب لأن اللايقين حول الحرب كان يؤثر على نفسية المستثمرين. كان الكثيرون في الولايات المتحدة يتوقعون انهيار السوق مع سقوط القنابل الأولى. تصوروا مدى دهشتهم عندما بدأ السباق حين ارتفع السوق خلال الأشهر الثلاثة القادمة 10٪، ما يعادل نمواً سنوياً قدره 40٪. لماذا تجد الناس مستعدين لشراء الأسهم أثناء المجزرة؟ الجواب بسيط: الأحداث الحامية تصبح قديمة عندما تصل إلى مرحلة النشر. يدرك المستثمرون أن مخاوفهم لم تتحقق، وبالتالي لا أهمية للأنباء السيئة. ويحدث هذا مراراً وتكراراً.

وفي أغسطس 2005 ضرب إعصار «كاترينا» الساحل الجنوبي للولايات المتحدة فقتل 1836 شخصاً وسبّب ضرراً بمئة مليار دولار. كانت الأنباء من نيو أورليانز تتحدث عن الفوضى الكاملة: اغتصابات واغتيالات بل أكل لحوم البشر. فُتحت أبواب السجون فانتشر المساجين بين السكان. أُعلنت حالة حرب وصدرت أوامر بإطلاق النار على أي شخص لا يلتزم بحظر التجول. الشخص الطبيعي كان سيتوقع انهيار الأسواق، فما الذي حدث فعلاً؟ بعد خمسة أيام ارتفع السوق 2.15٪. كيف؟! الأمر نفسه: أنباء الأحداث صارت قديمة. السوق ينظر إلى الأمام: من الواضح أن الحكومة والقطاع الخاص سيستثمرون في إعادة إعمار البنى التحتية، وهذا من شأنه إحداث فرص عمل، وعلى الأغلب ستؤثر هذه التكاليف بصورة إيجابية إجمالاً على الاقتصاد وقطاع الأعمال. الاستثمارات ليست رياضيات، والأرقام لا تؤكد في أحيان كثيرة تصوراتنا.

يوجد العديد من الأمثلة المشابهة المثيرة للجدل. في سنة 1998 توفي جيرالد بنس رئيس Cott Corp.. كانت تلك لحظة عصيبة لأفراد أسرته، لكن المستثمرين لم يشاطروهم شعورهم. من المنطقي أن تتوقع أن المستثمرين يمكن أن يرتعبوا عندما يموت قائد شركة فيبدؤون ببيع أسهمها. ولكن في «ساعة الحزن والغم» قفزت الأسهم بمقدار 8.1٪ لأن المستثمرين كانوا يشعرون بضرورة إجراء الإصلاحات في الشركة وكانوا يتوقعون أن تبدأ هذه الإصلاحات بعد استلام المدير الجديد. هذا فعلاً يصعب فهمه.

وأحياناً يحدث العكس

أحياناً تعلن شركة عن أرباح عالية فتنخفض أسهمها. ما الداعي لبيع أسهم شركة أعلنت أنها كسبت أموالاً طائلة؟ الأسباب عديدة: قد يكون الربح عالياً لكن دون توقعات السوق، فيتبين أن الخبر الجيد ليس خبراً لأن سعر السهم كان يشمل الربح. في مثل هذا الوضع لن تحدث إلا خيبة أمل. أحياناً تنخفض أسعار الأسهم حتى في حال أرباح قياسية لأن الأرباح في المستقبل ستنخفض في الغالب، ويرى المستثمرون اللايقين المستقبلي. قد يعتبر الشخص العقلاني أنه من المنطقي شراء أسهم الشركة التي أعلنت تواً عن أرباح عالية، لكن هذا قد يكون ضلالاً خطراً.

الأسواق والاقتصاد أمران مختلفان

قد تنمو الأسواق في فترة الكساد الاقتصادي أو تتدهور أثناء نمو الاقتصاد. تفسر الأسواق أخبار الاقتصاد بشكل غير خطي، إذ كثيراً ما يحدث أن السباق يبدأ بعد إعلان نتائج اقتصادية سيئة للغاية. لماذا؟ فمن الواضح أن ارتفاع مستوى البطالة وخمول الأعمال وانخفاض النفقات الاستهلاكية لا يمكن أن يروق إلا للمحامين المختصين بقضايا الإفلاس. ولكن السوق تنمو في أحيان كثيرة أثناء هذه الأخبار السلبية لأن تحليل السوق للمستقبل يختلف تماماً.

يترافق الكساد الاقتصادي عادةً بتصرفات الحكومة من خفض سعر الفائدة (السياسة النقدية) أو النفقات الحكومية المنشِّطة أو خفض الضرائب (السياسة المالية). والعكس صحيح: إذا كانت أخبار الاقتصاد إيجابية فلا يمكن أن تتوقع كل هذه المزايا، وقد تلوح في الأفق تدابير تقييدية جديدة. الأنباء السيئة هي أنباء جيدة، والعكس بالعكس.

عندما تفكر بالاستثمارات، من المفيد أن تتذكر أحداث سنة 1781 حين استسلم الجيش البريطاني العظيم أمام الفرنسيين وحفنة من المستعمرين بقيادة جنرال لم يشتهر إلا بالهزائم. عندما كان الضباط البريطانيون يسلمون سيوفهم للمنتصرين بانتظار العودة إلى الوطن، كانت الأوركسترا تعزف معزوفةً عنوانها «العالم انقلب». يجب أن تتذكر هذه الأغنية عندما تستثمر أموالك التي من عرق جبينك. ولا تنس جورج كوستانزا.

الرجاء وصف الخطأ
إغلاق